القطار
تقولُ ليَ ابنتايَ:
الصيفُ جاءَ
الناسُ ترحلُ للمصايفِ،
للبحارِ
ونحنُ لم نمضِ لأبعدِ من مدينتنا الفقيرةِ
أنتَ ترحلُ في قطارٍ عاطلٍ
خذْنا إلى جزرِ الكناري مرةً
أو... فليكنْ للكوتِ
لم نرَ دجلةً
خذْنا إليها....
...............................
...............................
يا ابْنتيَّ
غداً يكونُ لكلِ واحدةٍ طريقٌ للمدى
أمّا أنا
يوماً
سأحملُ دجلتي وسأعبرُ البلطيقَ مشياً
أو
سأرحلُ في قطارٍ عاطلٍ نحو الجنووووووووووبْ
وَصَلَ القطارُ ولم تكوني فيهِ
قلتُ:
"سأنتظرْ
فلربما تأتينَ في البعدِ الأخيرِ"
الثلجُ يهطلُ، والرياحُ شديدةٌ
وأنا دخلتُ بطانتي (متقنفذاً)
شبحٌ بعيدٌ
(لا أراهُ، سوى اتّقادِ الجمرِ في الغليونِ)
نحويَ قادمٌ
هو ضائعٌ مثلي
ومثليَ ربما
هو بانتظارِ حبيبةٍ لم تأتِ بعد
.......................
.......................
ألقى ذراعاً فوقَ كتفي
وهو ينظرُ للسماءِ بنظرةٍ ملأى بسخطٍ أو عتابٍ
ثم قالَ مربّتاً كتفي، بحزن:
"وصلتْ ولكن لم تجدْكَ.... فغادرتْ؟"
وأشارَ نحو اللاجهةْ
فهرعتُ حيث أشار
• من ديوان "القطار"
الغزاة
في أولِ الليلِ يأتونَ،
في آخر الليلِ،
في الفجرِ..
قد وصلوا الآنَ
(زرقاءُ) لمّا تزلْ ترقبُ القادمينَ
تقولُ:
"أرى شجراً ماشياً"
غير أنهمُ الآنَ يمشون ما بيننا
من هنا مرَّ قائدُهم
كانَ يبدو وديعاً
وعيناه في وجلٍ ترقبانِ
الرجالَ الذينَ تنادوا بثأرٍ قديمٍ
وخلف المتاريسِ كانوا
يصفّون طلْقاتهم في الشواجيرِ
مرتقبينَ الإشارةَ
والنسوة اللائي كنَّ يقفنَ على أسطحِ الدورِ
مفتتناتٍ
بسحرِ الغزاةِ الذينَ
أتوا صامتينَ
ومروا
ولم يدركوا ما يخبئنَ تحتَ النقابِ
فساروا خفافاً
(وزرقاءُ) لمّا تزلْ ترقبُ القادمينَ
تقولُ:
"أرى شجراً ميّتاً"
غير أن الغزاةَ الذينَ أتوا
كالسحابةِ مروا
ولم يتركوا.....، مثلاً:
بسمةً،
صرخةً،
أثراً
غير ما تركوه على أوجه الحائرينَ
سؤالاً
"لماذا أتوا...
ثمَّ لم يمكثوا؟"
.................................
.................................
.................................
" آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآهِ
لو مكثوا"
قال شيخٌ ضريرْ
وأضافَ بحزنٍ:
"همُ الآنَ في سرّنا".
6/1/2008
أعرقُ المدن
على مدخلها مرآةٌ كبيرةٌ تحدّدُ للناسِ أشكالهم.
نائمةٌ برعونةٍ وغفلةٍ، عسسٌ يجوبون الشوارعَ قاتلين نكهةَ الليل بدورياتٍ موبوءة. الناس فيها صنوجٌ غبية تعزفُ تراتيلَ الطاعةِ للغبار الذي يلوّثُ أجملَ التحف ويمحو فضّةَ الذكريات، نادمينَ وندمهم أرعنُ تنزفهُ كراماتُهم المهدورةُ. أكفّهم ملطخةٌ بالهباء وعلى أصابعها ثآليلُ نواياهم. النساء في المدينةِ أشكالٌ تبحثُ عن معنىً، كمائنُ منتعظةٌ للشائعات، جالسات على دكّةِ أوجاعهنّ ، يلكنَ المرارةَ كلبّادٍ وآهاتهنَّ تدخلُ وتخرجُ إلى الطريق الذي يُطعمُ الجياع موائدهُ الرخيصة، شوارعُ المدينة خطواتٌ رسمها الارتباكُ والضياع، المجانينُ فيها يحدّقون إلى واجهاتِ الزمن الخاليةِ ويملأون الفراغَ بالحكمةِ والتجديف. ليل المدينةِ مزدحمٌ بالعويل، والشعراءُ -مواخير الحنين- يسرقونَ فدّاناً من عتمةٍ كي يزرعوا أحلامهم متمنين للوجد عائلةً هادئةً وأطفالاً يسبحون في الغبطةِ، متلعينَ أعناقهم كزرافاتٍ متوجسةٍ بانتظارِ نزولِ اللهِ من عليائهِ ليقولَ لهم:
"تعالوا نبحث عن إلهٍ جديد".
في مركزِ المدينةِ ينتصب تمثالُ (النذالة) وهي ترفعُ يدها بعهرٍ تسخرُ من عيون الأسى المطلّةِ من خلف القضبان. تأريخُ المدينةِ مدوّنُ على لوحٍ مثبتٍ على تلّ (الضحية):
"عن واهم ابن حالم أخبرنا عن جدّهِ طيفِ ابن خيال قال:
الموتُ للحياةِ وإيّاكم والجدلَ فأنهُ مفسدُ الأمم".
تنامُ المدينةُ متخمةً بالأوهامِ وتستيقظُ على حكمةِ اليوم التي لم تتغير:
"اهربْ سعد فقد هلكَ سعيد"
ولكنْ أنّى لسعدٍ وعلى مخرجِ المدينةِ سهامٌ تشيرُ إلى الهاوية.
• من مجموعته القصصية " ثمة أشياء أخرى" الصادرة عام 2004
كابوس 3
تتوقف السيارة عند ساحة في مدينة الكوت. أنزل منها حاملاً حقيبتي وأمشي باتجاه بيتنا. مطرٌ أسود، الأشجار سود، الجدران مصبوغة بالأسود، مياه سوداء تجري نحو فتحات مجاري تصريف المياه الوسخة، الشوارع مكفهرة سدّ وحل الظلام منافذها، الناس زنوج يمشون في الشوارع غير آبهين بالمطر الأسود. أصلُ إلى الشارع العام حيث يقع بيتنا بموازاة نهر دجلة. كانت المياه، لا ليست مياهاً تجري في دجلة بل قار ساخن. بضع خطوات وأصل بيتنا، ينفتح الباب، يخرج أبي وخلفه أمي ثم أخوتي وأخواتي يلبسون أكفاناً سوداً ويحملون بأيديهم زهوراً سوداء. يسيرون بنسقٍ قاطعين الشارع الرئيسي متجهين إلى النهر. أناديهم ولكنهم لا يسمعون صراخي. يغوصون في النهر لم يظهر من أجسادهم سوى رؤوسهم السوداء، ثم يختفون في قاع النهر، فقاعات سوداء كبيرة تطفو على سطح النهر، ثم تنفجر في الفضاء فتغطي الشارع شظايا سوداء وقطع من لحمٍ بشري محروق.
كابوس 4
متدثراً بعباءةٍ من وَبَرٍ، لا أدري كيف حصلتُ عليها لكني أعرف أني لم أقتلْ أو أسلبْ أحداً. أسير في تيهٍ يعرفني. للتيه أبوابٌ مفتوحةٌ على خواءٍ مطلق. أركض.. أركضُ، استنجد بكل المفردات كي أؤاخي الأشياء والمدلولات بأسمائها ودلالاتها. حبّاتُ الرمل تختزن سراباً أو ذاكرة سراب والعواسج أوسع المظلات في هذا القفر. أهرب من الشمس الحارقة. أركض.. أركض. أسمعُ صوت لهاث خلفي. ألتفتُ، لا أرى غير ظلي يركض خلفي. أشعر بالتعب. أقف ثم أستظل بعوسج.
كابوس 5
قاعة كبيرة تزدحم بالناس بانتظار بدء الأمسية الشعرية لشاعرة سمعتُ باسمها كثيراً. أجلس بين المقاعد. يرفع رجل بدين رجله ويضع قدمه على رأسي، آمراً إياي أن لا أتحرك. يظهر عريف الحفل عارياً ينقر المايكرفون ثلاث نقرات ثم يتنحنح ويسعل. يصل رذاذ سعاله إلى وجهي. يعلن عن الترحيب بالشاعرة الكبيرة (زكية جاسم). تخرج الشاعرة على المسرح وهي ترتدي كفناً قديماً يكشف عن وجهٍ شاحب بعينين سوداوين وأنف كبير. وجه أليف جداً كأنه لم يغادر مرآتي لحظة، تقرأ عنوان القصيدة:
"إلى ولدي"
فيصفق الجمهور حينما تذكر اسم ولدها الذي لم أعد أتذكره، ثم ترتفع موجة نحيب وبكاء. تستمر فترة من الوقت لم استطع حساب دقائقها، يعمُّ صمت رهيب حتى تكاد تسمع دقات القلوب، ثم تبدأ بقراءة قصيدتها بكبرياء وحزن واضح صدقهما. عاصفة من التصفيق والهتاف، فصمتٌ ينذر بالعاصفة ثم عاصفة بكاء ونحيب، هياج، بُحران، أصوات طبول، أصوات ضرب سلاسل وتطبير، صوت عبد الزهرة الكعبي، لم أعد أتذكر من القصيدة سوى بيت واحد ظل يرن في أذني حتى بعد استيقاظي:
"حتى خيالكَ موجعٌ
حتى سرابُكَ مالحُ"
كابوس 6
كنتُ أنا وشوارتزكوف جالسين في خيمةٍ وبيننا نطعٌ وسيف. نتجاذبُ أطراف الصحراء، وكان المغني يغني:
"معصمٌ يذعنُ للريحِ
إلهٌ يسرقُ الصيتَ
رميمٌ هندسَ الماضي
وسجنٌ غامضُ الرحمةِ
رؤيا
يا
يُبَه يا يُبَه يا يُبَه
أووووووووووووووووووووو "
..واستيقظتُ على عواء الذئاب وهي ترفع أبوازها نحو السماء، بينما تسمر الرجال بخوف وذهول وانكمشت النسوة على بعضهن بكتلة سوداء لا يظهر منها سوى عيون خائفة. توقفت الذئاب عن العواء ثم أدارت لنا ظهورها وانطلقت نحو الجهات التي أتتْ منها مخلّفةً غباراً كثيفاً حتى لم يعد يرى أحدنا الآخر. وحينما انقشع الغبار كانت الذئاب قد اجتازت خط الأفق الدائري مخلفة في نفوسنا قلقاً و يأساً يصل حد الشعور بعبثٍ يطال كل شيء، فلم يعد الوصول إلى الوطن (بل الوطن نفسه) ذا معنى، لكنه في النفوس المكابرة وهمٌ جاهز، يفيق من سباته كلما لم يجد المكان مكاناً يقيم عليه، وتعجز الحقيقة عن اجتراح أوهامٍ حقيقية.
• مقتطف من رواية "اقتفي أثري" الصادرة عام 2009